فصل: تفسير الآيات (224- 227):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (221- 223):

{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223)}
قوله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} إنما قال: {تَنَزَّلُ} لأنها أكثر ما تكون في الهواء، وأنها تمر في الريح. {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ} تقدم في الحجر. ف {يُلْقُونَ السَّمْعَ} صفة الشياطين {وَأَكْثَرُهُمْ} يرجع إلى الكهنة.
وقيل: إلى الشياطين.

.تفسير الآيات (224- 227):

{وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)}
قوله تعالى: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَالشُّعَراءُ} جمع شاعر مثل جاهل وجهلاء، قال ابن عباس: هم الكفار {يَتَّبِعُهُمُ} ضلال الجن والانس. وقيل {الْغاوُونَ} الزائلون عن الحق، ودل بهذا الشعراء أيضا غاوون، لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك. وقد قدمنا في سورة النور أن من الشعر ما يجوز إنشاده، ويكره، ويحرم. روى مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما فقال: «هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء قلت: نعم. قال: هيه فأنشدته بيتا. فقال هيه ثم أنشدته بيتا. فقال هيه حتى أنشدته مائة بيت». هكذا صواب هذا السند وصحيح روايته. وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم: عن عمرو بن الشريد عن الشريد أبيه، وهو وهم، لان الشريد هو الذي أردفه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. واسم أبى الشريد سويد.
وفي هذا دليل على حفظ الاشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا، وإنما استكثر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شعر أمية، لأنه كان حكيما، ألا ترى قوله عليه السلام: «وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم» فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه فذلك مندوب إليه، كقول القائل:
الحمد لله العلى المنان ** صار الثريد في رءوس العيدان

أو ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مدحه كقول العباس:
من قبلها طبت في الظلال وفى مستودع ** حيث يخصف الورق

ثم هبطت البلاد لا بشر أنت ** ولا مضغة ولا علق

بل نطفة تركب السفين وقد الجم ** نسرا واهلة الغرق

تنقل من صالب إلى رحم ** إذا مضى عالم بدا طبق

فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا يفضض الله فاك».
أو الذب عنه كقول حسان:
هجوت محمدا فأجبت عنه ** وعند الله في ذاك الجزاء

وهى أبيات ذكرها مسلم في صحيحه وهى في السير أتم.
أو الصلاة عليه، كما روى زيد بن أسلم، خرج عمر ليلة يحرس فرأى مصباحا في بيت، وإذا عجوز تنفش صوفا وتقول:
على محمد صلاة الأبرار ** صلى عليه الطيبون الأخيار

قد كنت قواما بكا بالأسحار ** يا ليت شعري والمنايا أطوار

هل يجمعني وحبيبي الدار

يعني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجلس عمر يبكى. وكذلك ذكر أصحابه ومدحهم رضي الله عنهم، ولقد أحسن محمد بن سابق حيث قال:
إنى رضيت عليا للهدى علما ** كما رضيت عتيقا صاحب الغار

وقد رضيت أبا حفص وشيعته ** وما رضيت بقتل الشيخ في الدار

كل الصحابة عندي قدوة علم ** فهل على بهذا القول من عار

إن كنت تعلم إنى لا أحبهم ** إلا من أجلك فأعتقني من النار

وقال آخر فأحسن:
حب النبي رسول الله مفترض ** وحب أصحابه نور ببرهان

من كان يعلم أن الله خالقه ** لا يرمين أبا بكر ببهتان

ولا أبا حفص الفاروق صاحبه ** ولا الخليفة عثمان بن عفان

أما على فمشهور فضائله ** والبيت لا يستوي إلا بأركان

قال ابن العربي: أما الاستعارات في التشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد، فبذلك يضرب الملك الموكل بالرؤيا المثل، وقد أنشد كعب بن زهير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ** متيم إثرها لم يفد مكبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ** إلا أغن غضيض الطرف مكحول

تجلو عوارض ذى ظلم إذا ابتسمت ** كأنه منهل بالراح معلول

فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع ولا ينكر في تشبيهه ريقها بالراح. وأنشد أبو بكر رضي الله عنه:
فقدنا الوحى إذ وليت عنا ** وودعنا من الله الكلام

سوى ما قد تركت لنا رهينا ** توارثه القراطيس الكرام

فقد أورثتنا ميراث صدق ** عليك به التحية والسلام

فإذا كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمعه وأبو بكر ينشده، فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا. قال أبو عمر: ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولى النهى، وليس أحد من كبار الصحابة واهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر، أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحا، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله، وروى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر يقول: «أصدق كلمة- أو أشعر كلمة- قالتها العرب قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل

أخرجه مسلم وزاد وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم»
وروى عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه: مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر. فقال: ويلك يا لكع! وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي، فحسنة حسن وقبيحه قبيح! قال: وقد كانوا يتذاكرون الشعر. قال: وسمعت ابن عمر ينشد:
يحب الخمر من مال الندامى ** ويكره أن يفارقه الغلوس

وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة العشرة ثم المشيخة السبعة شاعرا مجيدا مقدما فيه. وللزبير بن بكار القاضي في أشعاره كتاب، وكانت له زوجة حسنة تسمى عثمة فعتب عليها في بعض الامر فطلقها، وله فيها أشعار كثيرة، منها قوله:
تغلغل حب عثمة في فؤادي ** فباديه مع الخافي يسير

تغلغل حيث لم يبلغ شراب ** ولا حزن ولم يبلغ سرور

أكاد إذا ذكرت العهد منها ** أطير لو ان إنسانا يطير

وقال ابن شهاب: قلت له تقول الشعر في نسكك وفضلك! فقال: إن المصدور إذا نفث برأ.
الثانية: وأما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم، فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة، وأشحهم على حاتم، وإن يبهتوا البرئ ويفسقوا التقى، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء، رغبة في تسلية النفس وتحسين القول، كما روى عن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فبتن بجانبي مصرعات ** وبت أفض أغلاق الختام

فقال: قد وجب عليك الحد. فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ}.
وروى أن النعمان بن عدى بن نضلة كان عاملا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
من مبلغ الحسناء أن حليلها ** بميسان يسقى في زجاج وحنتم

إذا شئت غنتني دهاقين قرية ** ورقاصة تجذو على كل منسم

فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ** ولا تسقني بالأصغر المتثلم

لعل أمير المؤمنين يسوءه ** تنادمنا بالجوسق المتهدم

فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه. وقال: إي والله إنى ليسوءني ذلك. فقال: يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا مما قلت، وإنما كانت فضلة من القول، وقد قال الله تعالى: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ} فقال له عمر: أما عذرك فقد درأ عنك الحد، ولكن لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت. وذكر الزبير بن بكار قال: حدثني مصعب بن عثمان أن عمر بن عبد العزيز لما ولى الخلافة لم يكن له هم إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص فكتب إلى عامله على المدينة: إنى قد عرفت عمر والأحوص بالشر والخبث فإذا أتاك كتابي هذا فاشدد عليهما وأحملهما إلى. فلما أتاه الكتاب حملهما إليه، فأقبل على عمر، فقال: هيه!
فلم أر كالتجمير منظر ناظر ** ولا كلئالي الحج أفلتن ذا هوى

وكم مالئ عينيه من شيء غيره ** إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى

أما والله لو اهتممت بحجك لم تنظر إلى شيء غيرك، فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون! ثم أمر بنفيه. فقال: يا أمير المؤمنين! أو خير من ذلك؟ فقال: ما هو؟ قال: أعاهد الله أنى لا أعود إلى مثل هذا الشعر، ولا أذكر النساء في شعر أبدا، وأجدد توبة، فقال: أو تفعل؟ قال: نعم، فعاهد الله على توبته وخلاه، ثم دعا بالاحوص، فقال هيه!
الله بيني وبين قيمها ** يفر منى بها وأتبع

بل الله بين قيمها وبينك! ثم أمر بنفيه، فكلمه فيه رجال من الأنصار فأبى، وقال: والله لا أرده ما كان لي سلطان، فإنه فاسق مجاهر. فهذا حكم الشعر المذموم وحكم صاحبه، فلا يحل سماعه ولا إنشاده في مسجد وفى غيره، كمنثور الكلام القبيح ونحوه.
وروى إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «حسن الشعر كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام» رواه إسماعيل عن عبد الله الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره.
وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام» الثالثة: روى مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا» وفي الصحيح أيضا عن أبى سعيد الخدري قال: بينا نحن نسير مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «خذوا الشيطان- أو أمسكوا الشيطان- لان يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا» قال علماؤنا: وإنما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد أتخذ الشعر طريقا للتكسب، فيفرط في المدح إذا أعطى، وفي الهجو والذم إذا منع، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم. ولا خلاف في أن من كان على مثل هذه الحالة فكل ما يكتسبه بالشعر حرام. وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه، ولا يحل الإصغاء إليه، بل يجب الإنكار عليه، فإن لم يكن ذلك لمن خاف من لسانه قطعا تعين عليه أن يداريه بما استطاع، ويدافعه بما أمكن، ولا يحل له أن يعطى شيئا ابتداء، لان ذلك عون على المعصية، فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه بنية وقاية العرض، فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة. قوله: «لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه» القيح المدة يخالطها دم. يقال منه: قاح الجرح يقيح وتقيح وقيح. و«يريه» قال الأصمعي: هو من الورى على مثال الرمي وهو أن يدوى جوفه، يقال منه: رجل موري مشدد غير مهموز.
وفي الصحاح: وروي القيح جوفه يريه وريا إذا أكله. وأنشد اليزيدي:
قالت له وريا إذا تنحنحا

وهذا الحديث أحسن ما قيل في تأويله: إنه الذي قد غلب عليه الشعر، وامتلأ صدره منه دون علم سواه ولا شيء من الذكر ممن يخوض به في الباطل، ويسلك به مسالك لا تحمد له، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول. ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه لأوصاف المذمومة الدنية، لحكم العادة الأدبية. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوب على هذا الحديث: باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر. وقد قيل في تأويله: إن المراد بذلك الشعر الذي هجي به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو غيره. وهذا ليس بشيء، لان القليل من هجو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكثيره سواء في أنه كفر ومذموم، وكذلك هجو غير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المسلمين محرم قليله وكثيره، وحينئذ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معنى.
الرابعة: قال الشافعي: الشعر نوع من الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيح كقبيح الكلام، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته وإنما يكره لمضمناته، وقد كان عند العرب عظيم الموقع. قال الأول منهم:
وجرح اللسان كجرح اليد

وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشعر الذي يرد به حسان على المشركين: «إنه لأسرع فيهم من رشق النبل» أخرجه مسلم.
وروى الترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة يمشى بين يديه ويقول:
خلوا بنى الكفار عن سبيله ** اليوم نضربكم على تنزيله

ضربا يزيل الهام عن مقيله ** ويذهل الخليل عن خليله

فقال عمر: يا بن رواحة! في حرم الله وبين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «خل عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم من نضح النبل».
الخامسة: قوله تعالى: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ} لم يختلف القراء في رفع {وَالشُّعَراءُ} فيما علمت. ويجوز النصب على إضمار فعل يفسره {يَتَّبِعُهُمُ} وبه قرأ عيسى ابن عمر، قال أبو عبيد: كان الغالب عليه حب النصب، قرأ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} و{حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} و{سُورَةٌ أَنْزَلْناها}. وقرأ نافع وشيبة والحسن والسلمى: {يتبعهم} مخففا. الباقون {يَتَّبِعُهُمُ}.
وقال الضحاك: تهاجى رجلان أحدهما أنصارى والآخر مهاجري على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع كل واحد غواة قومه وهم السفهاء فنزلت، وقاله ابن عباس. وعنه هم الرواة للشعر.
وروى عنه علي بن أبي طلحة أنهم هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والانس، وقد ذكرناه. وروي غضيف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من أحدث هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه»وعن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما افتتح مكة رن إبليس رنة وجمع إليه ذريته، فقال ايئسوا أن تريدوا أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا، ولكن أفشوا فيهما- يعني مكة والمدينة- الشعر.
السادسة: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ} يقول: في كل لغو يخوضون، ولا يتبعون سنن الحق، لان من اتبع الحق وعلم أنه يكتب عليه ما يقوله تثبت، ولم يكن هائما يذهب على وجهه لا يبالى ما قال. نزلت في عبد الله بن الزبعرى ومسافع بن عبد مناف وأمية بن أبي الصلت. {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ} يقول: أكثرهم يكذبون، أي يدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه.
وقيل: إنها نزلت في أبى عزة الجمحي حيث قال:
ألا أبلغا عني النبي محمدا ** بأنك حق والمليك حميد

ولكن إذا ذكرت بدرا وأهله ** تأوه منى أعظم وجلود

ثم استثنى شعر المؤمنين: حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وكعب بن زهير ومن كان على طريقهم من القول الحق، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} في كلامهم {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا} وإنما يكون الانتصار بالحق، ومما حده الله عز وجل، فإن تجاوز ذلك فقد انتصر بالباطل.
وقال أبو الحسن المبرد: لما نزلت: {وَالشُّعَراءُ} جاء حسان وكعب بن مالك وابن رواحة يبكون إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: يا نبى الله! أنزل الله تعالى هذه الآية، وهو تعالى يعلم أنا شعراء؟ فقال: «اقرءوا ما بعدها {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}- الآية- أنتم {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا} أنتم» أي بالرد على المشركين. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «انتصروا ولا تقولوا إلا حقا ولا تذكروا الآباء والأمهات» فقال حسان لابي سفيان:
هجوت محمدا فأجبت عنه ** وعند الله في ذاك الجزاء

وإن أبى ووالدتي وعرضي ** لعرض محمد منكم وقاء

أتشتمه ولست له بكفء ** فشركما لخيركما الفداء

لساني صارم لا عيب فيه ** وبحري لا تكدره الدلاء

وقال كعب يا رسول الله! إن الله قد أنزل في الشعر ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن المؤمن يجاهد بنفسه وسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل».
وقال كعب:
جاءت سخينة كي تغالب ربها ** وليغلبن مغالب الغلاب

فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لقد مدحك الله يا كعب في قولك هذا».
وروى الضحاك عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ} منسوخ بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}. قال المهدوي: وفي الصحيح عن ابن عباس أنه استثناء. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} في هذا تهديد لمن انتصر بظلم أي سيعلم الظالمون كيف يخلصون من بين يدي الله عز وجل، فالظالم ينتظر العقاب، والمظلوم ينتظر النصرة. وقرأ ابن عباس: {أي منفلت ينفلتون} بالفاء والتاء ومعناهما واحد الثعلبي: ومعنى {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} أي مصير يصيرون وأى مرجع يرجعون، لان مصيرهم إلى النار، وهو أقبح مصير، ومرجعهم إلى العقاب وهو شر مرجع. والفرق بين المنقلب والمرجع أن المنقلب الانتقال إلى ضد ما هو فيه، والمرجع العود من حال هو فيها إلى حال كان عليها فصار كل مرجع منقلبا، وليس كل منقلب مرجعا، والله أعلم، ذكره الماوردي. و{أَيَّ} منصوب بـ {يَنْقَلِبُونَ} وهو بمعنى المصدر، ولا يجوز أن يكون منصوبا بـ {سَيَعْلَمُ} لان أيا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكر النحويون، قال النحاس: وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض.